أرجو ألا تسارع للإجابة بـ "لا" ، و أرجو أيضاً ألا ينتابك شعور بأنني أخالفك بالرأي.
ربما تكون القضية أعمق من إجابة أولية... بديهية، كما يظن غالبيتنا.
و للعلم فإن الكثير من الباحثين و المتخصصين قد درس نظرية العقل، و هناك استنتاجات مهمة حول تعريفه، نحن بغنى -هنا- عن ذكرها تفادياً للتشتت خارج الموضوع.
و دون الدخول إلى التعقيدات التي قد تفسر العقل Mind، و آلية عمله، فإن للعقل -بالتأكيد- دور مهم و حيوي في جميع جوانب حياتنا.
لا بل قد يُعتقد أن العقل هو الأصل الذي يمكن اعتماده و البناء عليه، و ما تبقى مجرد تفصيلات أو أدوات في خدمة العقل .
و ليكون لدينا شيءٌ من الدقة في محاولة الإجابة عن سؤال مقالنا، فلابد من الأخذ بعين الاعتبار ذلك التناغم الكبير و المتبادل بين العقل و الدماغ Brain (و هو عبارة عضو من الأنسجة العصبية الرخوة الموجود في الجمجمة ، و الذي يعمل كمركز لتنسيق الأحاسيس، و النشاط الذهني و العصبي).
فيمكننا الادعاء (و ربما الاستنتاج) من خلال الخصائص الفيزيائية للعقل، و تلك الخاصة بعمليات معالجة المعلومات في الدماغ (و التي هي عبارة عن عمليات غير مادية)، يمكننا القول بأن العقل هو مركب عمليات معالجة المعلومات في الدماغ.
و بما أنه يمكننا اعتماد قاعدة بسيطة تنساق مع ما سبق، و مع قبول معظمنا -إن لم نقل جميعنا- بأن قضية المعلومات (و معالجتها) هي قضية جوهرية في التعامل مع موضوع العقل، فإن نقطة انطلاقنا هي المعلومات.
و السؤال المزدوج الذي ينطرح هنا،
ما هو مصدر المعلومات الأولى بالنسبة للعقل؟ و كيف تم التعامل مع هذه المعلومات (و معالجتها) منذ البداية؟
على سبيل المثال، كيف تلقى الطفل الرضيع ذو عمر السنة، تلك المعلومات الغزيرة التي هطلت عليه من كل حدب و صوب، و التي ترتبط بالمحيط من حوله (الأصوات بتفصيلاتها، و الألوان، و الأشخاص ، و ما إلى ذلك).
هل تم التعاطي معها كمنطلق يبني عليه أم تمت بعض المقارنات البدائية و التي نتج عنها بعض الاستنتاجات الابتدائية البدائية.
هنا لا يمكننا أن نبتعد كثيراً عن تحقُّق بعض "المسلَّمات" الأولى، التي خلُص إليها العقل منذ "نعومة أظفاره".
و لا نجازف كثيراً إذا قلنا أنه بناءً على:
- هذه "المسلَّمات" الأولية ،و التي من الصعب الانزياح عنها كثيراً حتى نهاية عمر الإنسان.
- و بناءً على المهمة الحقيقية للعقل في الدفاع ضد التهديدات التي قد تلحق بالإنسان، و تحقيق أكبر قدر من المتعة و الارتياح.
و بناءً على ذلك سيبدأ العقل بمحاكمة الأشياء، و فرزها على أساس أنها في صالح الإنسان ، أو ضده.
هل يمكن للعقل أن يعمل ضدنا؟
في بعض الأحيان -كما هو معروف- تقود التقاطعات في المعلومات (بين الناس) إلى نتائج غير دقيقة، و ربما غير صحيحة.
و هذا الأمر يوافق عليه الجميع، في حال افترضنا أن الناس يمتلكون آراءً و أفكاراً مختلفة.
و لكن ماذا عن التقاطعات في المعلومات لدى الشخص الواحد؟
هل يمكن أن تقود إلى نتائج غير دقيقة و غير صحيحة؟
إن الجواب بالتأكيد يوضحه المثال التالي:
في حال اكتسب ذلك الطفل الصغير بعمر العشر سنوات مثلاً -و بناءً على محاكماته العقلية– اكتسب قناعةً.. أو مسّلمة..
أو قاعدة يبني عليها، مفادها بأن كسب المال يتطلب الحصول على شهادة أكاديمية عليا تقوده إلى وظيفة مرموقة تبعده عن شبح الفقر، و تدر عليه الكثير من المال، و أن ذلك سيتطلب منه بذل الجهد الكثير و الزمن الطويل حتى يتحقق حلمه.
فها هو ذا بدأ يكبر، و بدء يلاحظ بأنه قد بذل جهده في دراسته، و حصل على ترتيب مهم في صفه، و كذلك فها هو ذا يراقب الكثير من الحالات من حوله (كمعلومات) و ها هو قد بدأ عقله يقاطع هذه المعلومات.
و عندما دخل الجامعة استمرت المعززات لهذه الفكرة.
و لا يزال صديقنا، سائر في نفس المسار الذي وجهه عقله إليه.
فقد تخرج من الجامعة، و حصل على تقدير ممتاز.
و لكنه للأسف بعد البدء بوظيفته الحُلم، تفاجأ بأن الأمور ليس على ما يرام، و أن ما قام به لم يكن كما كان يتوقع.
فربما بلحظة هدوء و صفوٍ و بعيداً عن الضوضاء الخارجية و الداخلية، يقرر بأن يترك الوظيفة التي لطالما حلم بها، و ينطلق بمسار جديد كلياً، مختلفٌ جذرياً عن تلك "القناعة الراسخة" حول فكرة المال
و يبدأ بقاعدة جديدة كلياً: بأن كسب المال لا يحتاج إلى الجهد الكثير و الوقت الطويل، و حتى أنه لا يحتاج إلى التحصيل الأكاديمي العالي.
و سيتفاجأ بأن "قناعاته الراسخة" حول المال قد أخذها من بائع متجول مر في حارته عندما كان صغيراً دون أن يسأله.
و هنا هل سيكون جوابك عن سؤالنا في بداية المقال... نعم أم لا؟
التكتيكات التي يستخدمها العقل
سيبني العقل جميع الهياكل الأولية التي تحدد جميع مسارات حياتك في مراحل مبكرة من عمرك، و سيستمر بالقيام بإصدار التعليمات و الأوامر حيال أي مستجد يمكن أن يخرج عن الخطة.
و مع الأسف أنت تظن نفسك بأنك تقوم بالأمر بناءً على قرار مستقل ناتج عن "حكمة الصواب" ، و لكنك يا صديقي، لا تعلم -على الغالب- أن القرار قد اتخذ من قبل أن تقرر (و ربما من قبل بكثييييير)، و ما أنت إلا مُستخدَمٌ من قبل العقل.
و مع الأسف أيضاً، إذا حاولت أن تدخل لعبة المعلومات و تقاطع المعلومات، أو أنك أجهدت نفسك بوصف الأشياء و تصنيفها، فاعلم أنك واقعٌ تحت سيطرة لعبة العقل المفضلة.
فالتصنيف، و الفرز، و الربط، و المفاضلة، و الاستبعاد و ...، و كل المصطلحات التي تدور في فلك هذا المعنى ما هي إلا أدوات للعقل في لعبته الأساسية في إحكام السيطرة عليك.
و بالتأكيد لا يجب إهمال أهمية المعلومات و دورها في الكشف عن بعض الحقائق، و لكن لابد لك من أن تكون واعياً لأهمية أمرٍ آخر يفوقُ أهمية المعلومات، و هو مراقبة الأفكار، و مراقبة العقل أثناء التعاطي مع المعلومات.
فلا تنخدع بكثرة المعلومات، حتى لا تسير في الطريق المرسوم لك.
أنت أتيت هنا بمهمة فلا تغفل عنها، و تنحرف لتقع تحت سيطرة إحدى أدوات مهمتك... العقل.
ننصحك بقراءة المقالات التالية :
الواقع و العقل : لغزان يجب على الجميع حلهما
وردني سؤال من الصديق صمود العمر ينتقد فيه المثال الوارد في المقال.
الرد
لم يكن المثال (أن التحصيل العلمي لا يساعد الانسان على الحصول على الثروة) لأثبت أو لأنفي فكرة معينة.
الفكرة لنأخذ تصوراً عن:
- الآلية التي يعمل بها العقل
- و كيف يحصل العقل على البرامج المتبناة
- و ما هي المرحلة من العمر التي يتم فيها تبني هذه البرامج
إن العقل يعمل بطريقة القياس الذاتي، اي مرجعيته في القياس
هي البرامج المتبناة منذ مراحل مبكرة من العمر
أما بالنسبة لتساؤلك بأن "من قال لو ان العقل حلل لكان تحليله خاطئاً؟"*
فأقول إن العقل يحلل و يقارن و يفكك و يستبعد، بناءً على برامج سابقة لمرحلة التحليل، لقد كان العقل إما غائباً تماماً أو كان طفلاً أو مراهقاً. و عندما كَبُر الجسد (أي تقدم الانسان في العمر) لم يكبر العقل إلا معلوماتياً. لم يكبر العقل مع التقدم بالعمر إلا بشكل بسيط جداً. و السبب في ذلك هو أن الإنسان في معظم وقته لا يعيش في اللحظة (الآن) -و العقل هو السبب- فالعقل لا يستطيع أن يعيش إلا في الزمن (الماضي و المستقبل)، و اللحظة ليست زمن ... إنها الحياة .
شكرا على المقالة التي أضاءت موضوعا في غاية الأهمية. نتمنى التوسع فيه من خلال مقالات أخرى لاحقة ، تركز على التوازم الدقيق بين العقل الذي يشعر والعقل الذي يفكر ، وكلا العمليتان (التفكير و الشعور أو العاطفة) هما وظيفتان منفصلتان (رغم شديد تداخلهما) للمادة العصبية التي تكوّن ما نسميه الدّماغ. شكرا جزيلا أستاذ حسين على هذه الجهود الرّائعة.
شكراً لك دكتور حكيم على هذه الإضافة المهمة ،
بالفعل لم يتم التطرق في المقال الى العقل العاطفي. و لكن بالتأكيد سيكون هناك توسع في هذا الموضوع.
أكرر شكري لك