إن حلَّ لغز الواقع الذي نعيش فيه متروكٌ للخبراء، و هذا ليس بالأمر الجديد.
فاليوم يتم إسناد التفسيرات التي تخص الكون للفيزيائيين كما كانت تُسند لعلماء اللاهوت في عصر الإيمان .
و بطريقةٍ ما، يُبدي الإنسان المعاصر اهتماماً أقل بهذا الموضوع. و من غير المرجح أن تتعرض روحك للعقاب إذا لم تكن مقتنعاً بالانفجار العظيم.
وإنني أطمح في كتابي الجديد و الذي يحمل عنوان (الإنسان الخارق: أطلق العنان لقدراتك اللانهائية Metahuman: Unleashing Your Infinite Potential )، أن أغير هذا الموقف غير المكترث عن طريق إظهار أن الغموض الذي يكتنف الواقع هو أمرٌ شخصي في المقام الأول.
كما أنك و الكون تقعان في المستوى ذاته من الغموض. و حجتي ليست دينية أو علمية، و لكنها مع ذلك مستندة على الوعي، و تبدأ بتجربةٍ شائعة و هي: تناول وجبة.
التجربة ( الواقع ) و المفاهيم الذهنية
تخيل نفسك وأنت جالسٌ لتناول الإفطار و أمامك طبقٌ من البيض و الخبز المحمص (في الواقع يمكنك القيام بهذا التمرين أثناء وجبة الإفطار التالية)؛ انظر ما إذا كان بإمكانك إلقاء نظرة على الطعام فقط من حيث أشكاله و ألوانه؛ ليس هذا بالأمر الصعب.
و أثناء تناولك للقمة الأولى، دع المذاق و الرائحة يتسللان إليك بدون ترجمتهما كوجبة غذاء.
و هذا أصعب قليلاً، لكن تخيل أنك جئت من مجتمع لا يوجد به بيض أو خبز محمص، و قد طلب منك شخصٌ ما وضع هذه المواد الغريبة في فمك.
و في الوقت نفسه، ركز على صوت المضغ و ملمس هذه المواد على لسانك.
و المقصد هنا هو أن تدرك شيئاً بسيطاً و لكنه مع ذلك أساسيٌ جداً.
فعندما كنتَ طفلاً رضيعاً، لم تكن لديك حينئذٍ مفاهيم ذهنية تُدعى "الطعام و البيض و الخبز المحمص و البصر و التذوق و الملمس و الرائحة.
" و لقد جربت البيض والخبز المحمص مباشرةً؛ حيث سبقت التجربة المفاهيم الذهنية.
و استوعبت بسرعة هذه المفاهيم، و هي بالطبع مفيدة للغاية. و من المعلوم أن هناك الكثير من الأطفال الصغار سيعبثون بالطعام من فوق مقاعدهم الصغيرة، و يرمونه على الأرض، و يعاملونه عموماً كما لو كان لعبة، و بالطبع لا شيء من هذا مقبول، أو حتى منطقي في العالم اليومي (باستثناء معارك الطعام في المدرسة، إذ يصبح الطعام عبارة عن سلاح ، ويكون في حد ذاته مفهوماً ذهنياً).
و حينما لا تكون لديك مفاهيم ذهنية مسبقة تتعلق بوجبة الإفطار، يغدو ما هو موجودٌ بالفعل ممثلاً لك و لواقعية تجربتك.
فلا يوجد ما هو أكثر أهمية من ذلك، كما أن الشيئين لا ينفصلان. و ليس بوسعك إدراك ماهية وجبة الإفطار دون تجربتها؛ لذلك، فالإفطار يستند على تجربتك المباشرة.
ولهذا المثال البسيط عواقب بعيدة المدى. و هنا أدعوك أن تنظر من نافذتك إلى العالم الخارجي؛ إذا كان الوقت نهاراً ، و تخيل كما لو كنت ترى النجوم في الليل.
و اعلم أن لا شيء مما تراه أو تتخيله ينتمي إلى العالم الواقعي إن لم تكن جربته أو شهدته بالفعل من قبل.
الوعي و الخلق
إن المتشكك الذي لديه قناعات قوية حول الواقع المادي سوف يسخر من هذا الادعاء بقوله:
"بالطبع، إن الطعام و السحب و النجوم و المجرات وُجدت بالفعل قبل تجربتنا لهم أو احتكاكنا بها ، و لم يكن هناك بشريٌّ أثناء الانفجار العظيم".
و من الغرابة بمكان أنَّ بعض علماء الفيزياء سيعارضون ذلك. و دون الخوض في التفاصيل المعروضة في كتابي، سأعرض رأيي سريعاً و أقول إن الفيزياء قد وجدت أنه من المستحيل تفسير الواقع، سواءٌ على النطاق الشاسع للفضاء الخارجي أو على النطاق الضئيل من الذرات و الأجسام دون الذرية،
دون وجود مراقب. و قد أدى ذلك، وإن يكن على مضض، إلى التسليم بأنه من المحتمل أنَّ الوعي كان ملازماً لعملية الخلق. إذ أنه بدون وعي لا يمكن أن يكون هناك شيءٌ حقيقي، أو بالأحرى إذا كان هناك شيءٌ حقيقي، فبدون وعي لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله.
إذاً : من أو ما هو المراقب الكوني الذي كان لا بد من وجوده لجعل كل شيء حقيقياً؟ . و لا يلزم بالضرورة أن يكون مراقباً بشرياً. إذ تشير أحد الاحتمالات إلى الإله أو الآلهة،
و الذي يتدخل كخالق في البداية ثم يتجسد في الوعي الذي يشكل الخليقة بأكملها. و لا يُشار في العالم المادي إلى المراقب بصفته أحداً بعينه، وإنما هو مجرد الوعي نفسه.
ولهذا التفسير ميزةٌ كبيرة قد لا تفطن لها على الفور – وهي أنها تُوازن بين عالمي العقل والمادة.
و لقد كان العلم الحديث على مدى قرون في قبضة الفلاسفة الذين يحاولون حل لغز منشأ العقل.
و مما لا شك فيه أن العلم لا يستطيع تحديد المنشأ ضمن هذه السلسلة من الأجسام المادية، والتي تبدأ بالجسيمات دون الذرية والذرات والجزيئات، إلى حيث بدأت المادة في التفكير واكتسبت الوعي.
لذلك، فإنه من المستحيل القول كيف تنجح الذرات العادية بأدمغتنا في إنتاج الأفكار.
كما أن الأمر ليس كما لو أن إضافة المزيد من الأكسجين والكربون والنيتروجين سيجعلها تفكر فجأةً.
وكما تذهب أحد التعبيرات الطريفة، سيكون هذا كما لو أن إضافة المزيد من البطاقات إلى طاولة اللعب سيجعلها قادرةً على لعب البوكر.
و ترشدنا جميع الألغاز بالغة الأهمية إلى الوعي.
و لنا هنا ان نسأل :
من أين تأتي الحياة؟
كيف تعلّم الحمض النووي الانقسام؟
هل الإنسان العاقل فريدٌ من نوعه في الكون؟ ماذا يوجد خارج نطاق الزمكان؟
و نجد أن هناك بطبيعة الحال معارضة مشتركة للإجابة التي تقول أن الوعي هو الخالق، وأكثر من ذلك، إلى فرضية تحوّل الوعي إلى مادة وطاقة وفراغ وزمان.
و في كتابي (الإنسان الخارق) ستجدونني أسرد بالتفصيل كيف أن الوعي هو الحل الأمثل لكل الألغاز و الغموض .
أما بالنسبة للغزك أنت
فإننا نمتاز جميعاً بمفاهمينا الذهنية المختلفة. و لقد تعلمنا كيفية استغلالها، وأثناء هذه العملية أصبحنا ضحيةً لمسمياتنا ومعتقداتنا وذكرياتنا وظروفنا وأحكامنا المسبقة وانتقاداتنا.
حيث تغدو جميع هذه الملابسات بالغة الضرر عند وضعها في الاعتبار إزاء مواجهة سؤال "من أنا؟" و إنه لضربٌ من ضروب الحرية أن تكتشف أنك لست أحد هذه الأشياء.
فأنت تحظى بوعيٍ خالص يوجّه أفعالك. فأثناء تناول وجبة الإفطار خاصتك، وبغض النظر عما بداخل طبقك، تظل أنت الذي تخوض غمار التجربة منعماً بالوعي، بينما تنتقل خلالك المشاهد والأصوات والروائح والملمس والمذاق.
و نصل هنا إلى أن هذا الشعور بالذات، والذي يطلق عليه أحيانًا اسم "أنا"، يقف عند نقطة التقاطع بينك وبين الواقع. وتوجد عند نقطة التقاطع هذه احتمالاتٌ لا حصر لها.
و هنا ينبغي أن تكون هذه نقطة البداية للوجود الإنساني. ولكن عوضاً عن ذلك، يتم تعليمنا شيئاً مختلفاً في الطفولة المبكرة، وهو أن الاحتمالات محدودة، والكون عشوائي، ولا يعدو البشر أن يكونوا مجرد كيانات ضئيلة تسبح داخل فضاءٍ مخيف.
و هكذا ، فإننا فقط من خلال عكس هذا المفهوم الخاطئ، بوسعنا أن نستأنف دورنا كخالقين لواقعنا ومتحكمين به . و لكن الأمر يتطلب كتاباً كاملاً للكشف عن مدى التحرر الذي ستشعر به إزاء تغيير نظرتك للعالم بهذا الشكل الجذري، بيد أنني آمل أن يحفزك هذا المقال البسيط على التفكير في مدى عمق لغزك الخاص.
كتبه د. ديباك شوبرا Deepak Chopra
عزيزي القارئ
لأننا نهتم، نتمنى أن تكتب لنا في التعليقات عن المواضيع التي ترغب و تهتم بها لنتمكن من تقديمها لك، لرغبتنا في أن يعبِّر موقعنا عن اهتمامات القارىء العربي.
كما ونرجوا منك مشاركة المقال في حال أعجبك المحتوى.
ننصحك بقراءة المقالات التالية :
10 خطوات لخلق الـ تغيير الإيجابي في الحياة - ديباك شوبرا
المعنى الحقيقي لـ الحكمة - ديباك شوبرا
فكرة جديدة في الوعي .. كيفية حل مشاكل الحياة؟ الدكتور ديباك شوبرا