يدمن العقل البشري على التناقضات، غير أنَّ الطبيعة ليست كذلك. و تغدو هذه الحقيقة بالغة الأهمية عندما يتعلق الأمر بمفهوم الفوضى (chaos). ففي أذهاننا نعرف أن الفوضى، أو الاضطراب، هي نقيض النظام.
ومن خلال التفكير على هذا النحو، فإننا نلزم الميل البشري إلى تفضيل النظام على الفوضى.
و تدعم الحياة المنظمة كل أنواع الأنشطة المنظمة بدءاً من إعداد وجبة طعام من المواد الخام المجمعة بطريقة منظمة إلى صنع جهاز آيفون أو أية أداة تكنولوجية أخرى بطريقة منظمة.
و تعرف الفوضى على أنها الاضطراب الذي يعتري أي نظام و الذي قد يتسبب في انهياره. و قد كان يُشار للمرض العقلي في العصر الفيكتوري غالباً على أنه فوضى أصابت العقل، و ما العقل إلا الأداة التي نعتمد عليها للحفاظ على الحياة منظمةً وعقلانية. ولكن ماذا لو كانت هذه المناقشة بأكملها خاطئة؟ فطالما أننا نؤمن بمفهوم الفوضى، فإنها ستشكل تهديداً قوياً.
فمثلاً : يبعث السرطان بالفوضى في أنظمة الجسم المحكمة؛ وتهز الزلازل المدن؛ وتهدد أعمال الشغب في الشارع المجتمع المدني.
سلوك الفوضى
يتغير تهديد الفوضى لنا عندما نغير وجهة نظرنا.
أما عندما توسّع رؤيتك، فسترى أن الفوضى هي القناع الذي يرتديه الإبداع . فالموت بسبب السرطان يُدخل جسدك المنظم في حالة من الاضطراب تعرف باسم التحلل، غير أنَّ مواد جسمك تستمر في المساهمة في حياة الفطريات والبكتيريا والكائنات الحية الدقيقة الأخرى.
و يعتبر هذا الأمر جيد بالنسبة لهم، ولكنك قد تتذمر، لكن بدونهم، لم يكن بإمكان الحمض النووي البشري أن يتطور. و قد تطيح الزلازل بالمباني، ولكن بدون هذه التغيرات الزلزالية، لم تكن القارات الحالية لتنشأ، أو أشكال الحياة التي تستوطن آسيا بدلاً من إفريقيا أو أمريكا الشمالية بدلاً من أوروبا.
و هكذا ، فلا يمكن للخلق Creation أن يتأتى دونما تدمير destruction . وهذا واضح حتى على مستوى أفكارنا؛ إذ يجب أن تتلاشى أفكارك الأخيرة حتى تنشأ أفكار جديدة.
وينطبق الشيء ذاته على التفاعلات الكيميائية والشحنات الكهرومغناطيسية التي تجعل الدماغ يعمل. و لا يمكن أن تستمر أي عملية في الطبيعة إلى الأبد، والعديد من أهم هذه العمليات، انطلاقاً من وجهة نظرك ككائن حي يسكن كوكب الأرض، تدوم فقط بضعة آلاف من الثانية على المستوى الكمي.
لقد فضّل العلم حالة عدم التوازن عن طريق تفضيل القوة التدميرية على القوة التخليقية. إذ يعمل نموذج الفيزياء الطبيعية Nature physics منذ وقتٍ طويل عن طريق منح الأولوية للعشوائية والفوضى والمصادفات و الإنتروبيا entropy ، كما لو أننا عدنا إلى القرن الثامن عشر حينما كان يُنظر إلى آلية عمل الكون كالساعة التي لا تتوقف عن الدوران.
حيث انتظم الكون مقترناً بكل ما يحتاج إليه أثناء الانفجار الكبير، وبات في تدهورٍ منذ ذلك الحين، مع بعض الاستثناءات.
وهذه الاستثناءات كبيرة – وتشمل جميع الأشكال المنظمة في الطبيعة من الذرات و الجزيئات إلى النجوم و المجرات و الكواكب. و لم يكن واضحاً أبداً لماذا تتعامل هذه الفوضى المُفضّلة للتدمير مع الخلق باعتباره الاستثناء، في الوقت الذي يمكننا بكل بسهولة النظر إلى الخلق باعتباره القانون و القوة المهيمنة في الطبيعة.
التدمير هو أحد نواتج العقل
في الواقع فإنه من المنطقي أن نرى الطبيعة مبدعة على جميع المستويات، حيث أن التدمير ببساطة هو أحد نواتج العقل البشري.
و من المستحيل التفكير في أي عملية مدمرة لا تمثل في الواقع خطوةً نحو نتيجة إبداعية جديدة. وبما أن هذا لا يمكن إنكاره، من المستوى الكمي إلى الكوني، فمن الأفضل التغاضي عن تناقضية الفوضى والنظام.
وإذا تبنينا وجهة نظر إبداعية، فسنرى أن الفوضى تمزج بين الأشياء لتفتح الطريق أمام حدوث أشياء جديدة.
و ينبغي الإشارة هنا إلى أن هذا المنظور الجديد ليس مجرد لعبة ذهنية. فطالما أن البشر مجرد كيانات مادية تستوطن بقعةً من كوكبٍ ضائع بين تريليونات من النجوم، فإن القوة التدميرية ستظل صاحبة اليد العليا والقواعد العشوائية. و لكن إذا كنا عوضاً عن ذلك جزءاً من الخليقة الأبدية، فستتغير مشاركتنا، وسيكون التغيير جذرياً.
و إذا كنا نعيش في عالم تشاركي تكون فيه أفكارنا و رغباتنا ونوايانا مهمة، فسيتحول البشر حينئذٍ إلى عوامل خلّاقة قوية.
و من الممكن أن يحدث هذا فقط عندما نعطي للوعي consciousness الأولوية على المادة physical . ففي القاع، ينظر العلم إلى الفوضى كقوة مهيمنة بسبب فيزيائية الأشياء - حيث يمكن رؤية أجزاء صغيرة من المادة تهتز بدون هدف في كل مكان.
ومع ذلك، فإن هذا الاهتزاز الناجم عن هذه الأجزاء الصغيرة من المادة في أدمغتنا لا يجعل منها مهيمنةً إطلاقاً.
حيث أن هذه الأجزاء الصغيرة تخدم العقل وإمكاناته الإبداعية اللانهائية. أما خارج الدماغ، فإن أي خلية في الجسم هي نتاج الشغب الذي تحدثه هذه الأجزاء الصغيرة من المادة التي تهتز في الأرجاء، و مع ذلك فإن أجسامنا تعمل بذكاء و دقة و إدراك متقن.
و من هذا المنطلق تبدو الحكمة التي يعمل بها الجسم وكأنها مقطع موسيقي ساحر، بيد أنَّ هذه الحكمة حقيقية، و بدونها لم نكن لنوجد.
وتعتري الفيزياء في الوقت الراهن حالة من الذعر بسبب تفكك كل النماذج المقبولة المستندة على الفيزيائية الخالصة تقريباً. و لك أن تنظر إلى تيار المقالات الحالية في أي فرع من فروع الفيزياء، وستجد العناوين الرئيسية تتحدث عن أن الكواركات quarks (أصغر الوحدات البنائية في الطبيعة) غير موجودة بالفعل، وكيف أن السبيبة causation ترجع في الوقت إلى الوراء، وكيف أن الفوتونات تنتقل بسرعة عالية من موقع إلى آخر، وأن المادة المظلمة dark matter والطاقة تخرّبان المخطط الكامل للذرات والجزيئات، والكثير غير ذلك في أسلوبٍ جديد تتداعى فيه الحالات الشاذة بهدف دحض الافتراضات السابقة التي بدت قبل بضعة عقودٍ فقط كما لو كانت منزهة عن الانتقادات.
وفي الحقيقة إن الطبيعة خلاقة تماماً.
ولا توجد حالات شاذة تتعارض مع قوانين الطبيعة المحددة. فالقوانين في أحسن أحوالها مؤقتة، وقابلة باستمرار للتغيير. كما أن هذا التغيير ليس مدمراً. وسنجد باستمرار عملياتٍ جديدة تنبثق لخلق أشكال جديدة.
ودائماً ما يمكن وجود نظام أعلى للخلق، وهذا هو السبب في أن الفضل يرجع للفيزياء في وجود تريليونات من الأكوان، حيث يوظف كلٌّ منها قوانينه الخاصة ونسخته الخاصة من الفراغ والزمن والمادة والطاقة.
و هكذا فإننا نجد في النهاية أننا نعيش في حالة من الإبداع الدائم، ولا يهم أيّ شيءٍ آخر. وفي ظل هذه الديناميكية الإبداعية، فإن القوة الوحيدة التي تشرف على كل شيء هي الوعي.
وليس لدي مساحة لتوضيح سبب صحة ذلك (ولكن يمكن للقراء المهتمين الرجوع إلى كتابي، الإنسان الخارق Metahuman، لمعرفة الصورة الكاملة) ولكن على أقل تقدير، فإنك بمجرد أن تدرك أنك جزء لا يتجزأ من الاحتمالات الإبداعية اللانهائية؛ يمكن حينها تبديد الكآبة الحالية التي تعتري مستقبل البشرية والكوكب الذي نقطن فيه.
فدائماً ما تكون طريقة الخروج من كل الصعوبات أمراً خلاقاً ، ولا يوجد من هو أفضل منك ومني ومن الجميع في تحويل هذا القول إلى فعل.
كتبه د. ديباك شوبرا Deepak Chopra