منذ القرون كانت المنزلة الرفيعة موجودة ويشار إليها الآن بـ الحكمة. تشير عبارة "سادت رؤوس الحكماء" إلى أن الحكمة يمكن أن تنقذنا من الأعمال الغبية أو الحمقاء.
و قد كان الشيوخ يعتبرون بأنهم حكماء وكذلك الفلاسفة. ولكن بمجرد طرح هذه الإسنادات، تصبح الحكمة قديمة وغير ملائمة. فمن هم الرؤوس الأكثر حكمة في عصرنا هذا؟
بصرف النظر عن شخصية موقرة مثل الدالاي لاما Dalai Lama (زعيم روحي) من الصعب تسمية شخص واحد، وهو في الحقيقة شخصية روحية أكثر من كونه رجل حكيم كلاسيكي.
لا أحد يفكر في الحكمة كحل واقعي وحقيقي
مهما كانت الحكمة فإن الشخص العادي لا يفكر في الحكمة كثيراً أو حتى مطلقاً. وعندما تفكر في المشكلات الأكثر إثارةً للقلق – على سبيل المثال تغير المناخ والإرهاب والعنصرية والفقر والتوترات الدولية، فلا أحد يطالب بقوة بوجود الحكمة لحل تلك المشكلات.
و لكن ربما الحكمة -فقط- من يمكنها حل تلك المشكلات، اسمحوا لي أن أوضح ما أعنيه:
الطريقة الحالية لعلاج المشاكل
يتم حل كل مشكلة -وليس فقط المشاكل العالمية الكبرى بل المشاكل التي تدور في الحياة اليومية باستخدام نموذج عقلي. هذا النموذج يشرح الخطأ الذي حصل، و ما هي الخطوة الأولى في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.
فكر في مشكلة شائعة، على سبيل المثال الشعور بالاكتئاب، ففي وقتنا هذا نطبق نموذجاً طبياً ونرسل الشخص المكتئب للحصول على المساعدة من الطبيب، والذي سيصف له مضادات الاكتئاب، أو يذهب إلى طبيب نفساني يقوم بتطبيق نوع من العلاج عليه.
أما في الماضي فقد كانت نماذج أخرى تقدم شرحاً مختلفاً تماماً عن سبب إصابة شخص ما بالاكتئاب. فبدلاً من وصف الاكتئاب بأنه اضطراب عقلي أو مرض نفسي، مما يؤدي إلى محاولة فهم عقل الشخص.
فقد كان الاكتئاب يعتبر نقصاً في الانضباط الشخصي أو حتى فشلاً أخلاقياً. فالشخص المكتئب في نموذج آخر سيعتبر مُلكاً لأرواح شريرة، أو ربما يكون قد عوقب من الله بسبب بعض الخطايا الخفية.
ومن الغريب الاعتقاد بأن الاكتئاب قد كان يعالج باستخدام كل شيء، من العلاج بالنزف، إلى الأرواح الشريرة، ولكن هذه هي قوة النماذج الذهنية.
الطريقة الذهنية المنطقية للتعاطي مع الحالات الإشكالية
إن النماذج تخدع الناس بالاعتقاد بأنها حقيقية. حيث أنه في المجتمع الحديث، يكون الاعتقاد السائد بأن الاكتئاب هو مرض مثل الإصابة بنزلة برد أو الإصابة بالسرطان، دافعاً للشعور بالثقة إلى درجة أن القليلين قد يختلفون في ذلك.
ولكن في الواقع فإن نموذج المرض ليس دائماً قابلاً للتطبيق في حالة الاكتئاب، إذ أن عمل مضادات الاكتئاب الشائعة على الدماغ غير مؤكدة، وقد يساء فهمها واستخدامها تماماً.
حيث أنه لا يمكنك التنبؤ بشكل موثوق بمن سيصاب بالاكتئاب، وغالباً ما يحصل الاكتئاب بدون مسببات (معينة) يمكن لأي شخص أن يفسره.
فإذا كان النموذج الخاص بك لا يتنبأ بالأشياء بشكل صحيح ويؤدي إلى حلول عشوائية ويعتمد على افتراضات غير مثبتة (في هذه الحالة، الافتراض –الاكتئاب- يمثل مشكلة في الدماغ) ، فإنه ليس نموذجاً يطابق الواقع.
في الحياة العصرية، نعتمد على نموذج للواقع يحتوي على ثلاثة مكونات أو مستويات:
المستوى الأول هو البيانات
التي نجمعها لتتناسب مع الحقائق. ومن المفترض أن تتوافق الحقائق مع الواقع ، ولكن بفضل الموهبة الإنسانية للعقلانية لدينا الآن ما يسمى بالحقائق "البديلة"، والتي هي في الحقيقة مجرد آراء عنيدة ترفض أن تكون منطقية.
المستوى الثاني هو المعلومات
حيث تتكون المعلومات من الاستنتاج الذي تظهر فيه البيانات. فعلى سبيل المثال، إذا عاد فحص دمك بقراءة غير طبيعية لسكر الدم (حقيقة)، فقد يبلغك طبيبك أنك مصاب بالسكري (استنتاج).
ولكن في عديد من حالات الاضطرابات الأخرى لا يتفق الأطباء والخبراء الآخرون كثيراً، فيمكن أن تؤدي المعلومات نفسها -غالباً- إلى استنتاجات معاكسة.
المستوى الثالث هو المعرفة
والتي تتكون من الاستيعاب. وكطبيب يجب أن يكون لديك عمق معرفة معقول -نوعاً ما- إذا التحقت بكلية الطب واكتسبت المعرفة بالأمراض وكيفية علاجها.
و تعتبر المعرفة هي قمة النموذج العلمي أو العقلاني، فالبيانات تعطينا الحقائق والحقائق تتجمع في معلومات صحيحة، والمعلومات عندما يتم استيعابها كمعرفة من شأنها أن تتيح لنا حل أي مشكلة و من الممكن أن تجيب على أي سؤال.
ومع ذلك تنهار المعرفة، في الواقع هي تنهار في كل وقت.
وخير مثال على ذلك هو النظام الغذائي، حيث أنه يوجد هناك معلومات كافية حول فشل الأنظمة الغذائية، والتي تُظهر لنا بأنها غير مجدية، لكن حقيقة أن حوالي 2% فقط من أخصائيي الحميات الذين يمكنهم أن يخسروا خمسة أرطال، وأن يظلوا متوقفين عن الحمية لمدة خمس سنوات لا تمنع من صناعة حمية غذائية مربحة.
حيث أننا نعلم أن جميع أنواع الأشياء التي يكون فيها فهمنا عديم الجدوى: كانبعاثات الكربون التي تسخن الكوكب، وأن النساء متساويات مع الرجال، وأن الحروب ليس لها أي جانب إيجابي.
إن عدم المساواة بين الجنسين، والاحتباس الحراري، والصراعات العنيفة لا تزال قائمة ليس بسبب عدم الفهم – ولا يمكن دحض جميع البيانات والحقائق والمعلومات والمعرفة حول هذه المشكلات - ولكن بسبب فشل النموذج الحالي.
ماذا يفعل الناس عندما ينهار نموذج الواقع المتعلقين به؟
إنهم يتشبثون بهذا النموذج بقوة أكبر ويواصلون فعل الأشياء القديمة نفسها التي لم تنجح. فالعلم الذي يعد أيقونة النموذج المنطقي يتمسك بفكرة غير مثبتة تماماً، وهي على سبيل المثال أن الدماغ يكون العقل
وإذا قلت إن هذا النموذج لديه الكثير من المشكلات فسيتجاهل عالم الدماغ اعتراضاتك ويتمسك بنموذجه لأنه يبدو جيداً بدرجة كافية على الرغم من تناقضاته ويتوقف عمله عليه.
أدخل نموذج الحكمة وتمسك به. لقد نمت الحكمة بشكل ضئيل جداً، لسبب بسيط وهو أنها لا تتبع أي نموذج. وقد أوضح سقراط Socrates (فيلسوف يوناني) هذه الفكرة، وجعلته يواجه الكثير من المتاعب، وذلك بأن الحكمة لا يمكن تعليمها.
وبالتأكيد يمكنك تعليم جمع البيانات، وجمع الحقائق، والعديد من فروع المعرفة ولكن الحكمة ستقف بعيداً عن ذلك كله.
حيث تؤدي الحكمة الحقيقية إلى أشياء مثل البصيرة، والحدس، وعمق الخبرة، والوعي الذاتي، والتواضع أمام الأسرار التي لن يتم فهمها تماماً.
لأن الحكمة تتناقض مع اليقين الذي تحاول النماذج أن تقدمه لنا، فقد مرت بوقت عصيب في المجتمع مثل موت سقراط. حيث يدافع المجتمع عن نماذجه المفضلة والعزيزة (والتي يمكن أن تكون أسطورية ودينية ورومانسية وعلمية وغير ذلك) بشراسة؛ واليقين هو عدم الاستهزاء بها.
ولا يمكنني إلا أن أؤكد بأن الحكمة تدعو إلى طريقة مختلفة تماماً للنظر إلى الواقع.
بقلم الدكتور ديباك شوبرا PhD. Deepak Chopra