الطبيعة البشرية : يُجيد جميع الأشخاص تجنب الفيل الموجود بالحجرة، و الذي يشير إلى المشكلة التي يدركها الجميع و لكنهم لا يستطيعون إخضاعها للمناقشة.
و في بعض الأحيان يكون الفيل الموجود بالحجرة هو الطبيعة البشرية. فجميعنا يُظهر طبيعته البشرية، غير أننا نادراً ما نناقشها لسببٍ بسيط، وهو: لا أحد يعرف كيف يتعامل معها.
الطبيعة البشرية مشتتة بين الأضداد
كما هو معروف فالأسود Lions لا تعاني من أي صراعٍ داخلي حينما تفترس الضعيف، لكننا نعاني، أو ينبغي لنا ذلك.
و لا يجعل موسم التزاوج الدلافين خارجة عن السيطرة عاطفياً، بيد أنَّ النشاط الجنسي البشري محفوفٌ بآثار نفسية، و بالنسبة لبعض الأشخاص، لا يتم حل هذه المشاكل طوال العمر.
و مع ذلك فالمشكلة الأساسية، هي أن الطبيعة البشرية ممزقةٌ و مشتتة بين الأضداد.
إننا نرى أنفسنا جيدين و سيئين في الوقت ذاته، عقلانيين وغير عقلانيين، مسالمين و صارمين.
و الذات المنقسمة هي موضوع حديثي في كتابي الجديد الذي نشرته تحت عنوان "الإنسان الخارق: أطلق العنان لقدراتك اللانهائية".
و الذي أتحدى فيه العجز العام الذي يشعر به الناس اتجاه الطبيعة البشرية. و هو العجز الذي ينجم عن كونك إنساناً، بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
إذ ينطوي مجرد كونك إنساناً على مجموعةٍ من الأضداد الموروثة.
فأثناء الطفولة نتعلم أن نكبح الجانب المظلم من هذه الأضداد، إلا أن علم النفس لم يتجاوز كثيراً الاستنتاج الحزين الذي توصل إليه (فرويد) و الذي يقول أنَّ التحضُّر بالكاد يحجب ميلنا الفطري إلى العنف، و الغيرة الجنسية، و كراهية الآخرين، و غيرها من المشكلات الموروثة.
محاولة كبح الطبيعة البشرية
إذا كانت الطبيعة البشرية في صراعٍ منذ أن بدأ التاريخ المسجل، فربما ينبغي أن يظل الفيل في الحجرة. و بالتالي يبدو هذا و كأنه نوعٌ من الإجماع الصامت.
إذ يشعر الناس بالحرية في مناقشة أي شيء تقريباً باستثناء الذات المنقسمة.
فها هي الدول تُعِدّ الميزانيات العسكرية، و تدعم المدن بقوات الشرطة، و تقر الهيئات التشريعية القوانين، و كلهم يحاولون كبح أسوأ ما في الطبيعة البشرية، و رغم ذلك فإن الأشخاص الذين يشرّعون القوانين و يدفعون لتجهيز الجيوش و قوات الشرطة يعانون من نفس الدوافع التي يحاولون كبحها.
و على الرغم من الميل إلى أخذ هذه الأشياء كأمورٍ مسلّم بها، فإن الطبيعة البشرية لا تشبه طبيعة الأسود أو الدلافين أو أي مخلوقٍ آخر – و هي ليست ثابتة حقاً أو غريزية.
فنحن نذهب أبعد من طبائعنا طوال الوقت، و هذا هو السبب وراء اختياري للكلمة اليونانية "meta"، و التي تعني "الماوراء"، في عنوان الكتاب.
و هناك مقولة معروفة تقول بإنه لا يمكنك حل مشكلة ما انطلاقاً من نفس مستوى المشكلة. و يبدو أن هذا الأمر يعوق أي حلٍّ لمشكلة الطبيعة البشرية، إذ يفترض معظم الناس أنهم عالقون مع كينونتهم البشرية بكل ما تنطوي عليه من عيوب.
بيئة الطبيعة البشرية بيئة أضداد
تشكل كلٌ من العقلانية، و العلم، و الفن، و التعليم، و سنّ القوانين مجالاتٍ واسعة نرفض الاعتراف بذواتنا المنقسمة في حضورها؛ و إنما نؤسس بنياتٍ تعيد خلق الواقع بطريقةٍ منظمة، و يمكن التنبؤ بها، و آمنة، بل و حتى رائعة. فقد كانت شوارع عصر النهضة في إيطاليا ممتلئةً عن آخرها بالعصابات و المشاحنات العائلية (فكِّر في روميو و جولييت Romeo and Juliet) التي أدت إلى العنف و الخطر اليومي، و مع ذلك فقد سطع نجم ليوناردو دافنشي و رافائيل Raphael في الفترة الزمنية نفسها.
إلّا أنَّ النزوع إلى الماوراء له حدوده رغم ذلك. و يمكن للمرء أن يقول أن العلم، و الفن، و القوانين تعوضنا عن صراعاتنا الداخلية دون أن تحلها فعلياً. و في الحقيقة يبدو هذا واضحاً.
فقد كان كارافاجيو Caravaggio، الرسام الإيطالي الكبير، هارباً من أجل القتل، و في نهاية المطاف مات ميتةً عنيفة بطريقةٍ غامضة لم يتمكن أحدٌ من معرفتها.
و بالتأكيد فإن الفساد السياسي والتحرش الجنسي الذي يقوم به الأشخاص ذوو المناصب الهامة يدلّان على أن أسوأ ما في الطبيعة البشرية يقبع حيثما تكون المناصب العليا و مراكز القوة.
ثنائية العقل السفلي و الإنسان العاقل
في كتابي "الإنسان الخارق"؛ أناقش حقيقة أن الذهاب إلى الماوراء لم يتم اختباره إلى الحد الأقصى فعلاً.
إذ يوجد شكلٌ أقوى من الذهاب للماوراء أكثر من الفن، و العلوم، و القوانين، و حتى العقلانية؛ و هو ينطوي على تجاوز الطبيعة البشرية نفسها و التراجع عن جميع البنى العقلية التي تحيق بنا.
فالحقيقة المجردة هي أن الطبيعة البشرية بنية يتم تأسيسها ذاتياً.
و عليه فإن الدماغ السفلي يظل معنا في رحلتنا التطورية، مدعوماً بدوافع أساسية مثل (صارع أو اهرب fight-or-flight). بيد أنَّ الإنسان العاقل (Homo sapiens) هرب من السجن التطوري منذ آلاف السنين.
الأسد أسد لأنه أسد – و لا توجد خيارات في الأمر.
و لكن البشر كائنات ذاتية الخلق، و ذلك لأننا واعون بأنفسنا. و من ثمَّ فإننا نقاوم قانون البقاء للأصلح من خلال العناية بالضعفاء و الفقراء و العاجزين منّا.
إننا نُثقّف أنفسنا من أجل أن نسمو فوق غرائزنا و نوسع من مداركنا. و في الواقع فإن توسيع مداركنا هو غايتنا الكبرى. و لا يمكن أن يوجد العلم أو التكنولوجيا ما لم تكن واعياً بوجود تحدي أو مشكلة تستلزم الحلّ.
و من ثمَّ تبحث في داخلك عن الأفكار التي تؤدي إلى الحلول.
و ما يعنيه هذا هو أن الوعي يحل الصراعات الموروثة في الطبيعة البشرية. و لا يمكن تغيير الشيء إذا لم تكن واعياً به. و أنا لا أتحدث هنا عن مدى صعوبة المشاكل التي تواجهنا.
و لكن هدفي الوحيد هو الإشارة إلى أن المستوى الوحيد و الحقيقي للحل هو ألا يكون عالقاً في نفس مستوى المشكلة.
لقد بنينا مجتمعاتٍ غير كاملة، و فرضنا معتقداتٍ دينية تطغي عليها الكثير من الأساطير، و موّلنا الجيوش لنُشبع احتياجنا للعنف عند الضرورة.
و مع ذلك فإن الأشياء التي نقدرها أكثر من غيرها ليست بنياتٍ ذهنية؛ و هي تشمل الحب و الرحمة و الإبداع و الكرم و الفرح و الفضول و القدرة على التطور.
و ها هو ليوناردو دافنشي، قد حاز الذكاء و المهارة، اللتين ساعدتاه على رسم الموناليزا، إلا أنه لم يكتشف الإبداع.
و قد كان لأينشتاين أفكار علمية برّاقة، لكنه لم يكتشف الفضول. و بالتالي فإن الأساس الذي تقوم عليه الأشياء التي نقدّرها أكثر من غيرها يكمن في مصدر العقل، و هو الوعي ذاته.
و قد اُخترعت الطبيعة البشرية على مسافةٍ بعيدة من هذا المصدر.
و باستطاعتنا أن نكون متأكدين من ذلك لأن الوعي في حد ذاته ليس منقسماً؛ إنه كليّ.
إن الكمال ليس مخلوقاً. فنحن موجودون و واعون. و هذا إقرارٌ بالكمال. و يستند كتابي "الإنسان الخارق" على ادعاء أن الوجود و الوعي يمثلان الشيء نفسه. و لكي تكون واعياً تماماً؛ ما عليك إلا أن تكون هنا فحسب. و كل شيءٍ آخر يقع في نفس مستوى المشكلة.
هنا و الآن
"كن هنا الآن"؛ عبارة رائعة، ابتكرها المعلم الروحي "رام داس" Ram Dass ، الذي ما زال على قيد الحياة. و بالفعل يقبعُ وراء هذه العبارة الرائعة الواقع الخفي الذي يتجاوز جميع بنياتنا العقلية.
فلا يوجد حدٌّ واضح للإمكانات البشرية. و لدينا منبع لا ينضب من الأفكار و وسائل لانهائية للتعبير عن هذه الأفكار.
و مع ذلك، فإن الأفكار الأكثر ذكاءً لا تزال ثانويةً بالنسبة للوعي نفسه.
و الحقيقة هي أن البشر يعيشون في مستوى الفكر بدلاً من مستوى الوعي.
و يشبه هذا معرفتك لكيفية استخدام الحواسيب في الوقت الذي يؤرقك فيه التفكير في المصدر الذي أتت منه هذه الحواسيب.
و أنا هنا قمتُ بتوضيح الخطوط العريضة فقط، لما يمكن تحقيقه بواسطة الذهاب إلى الماوراء. فالشيء الجوهري هنا هو الذهاب لما وراء الطبيعة البشرية لإيجاد المنبع الذي نشأت منه.
و من هناك فقط يتسنى لنا تغيير طبائعنا البشرية. أما خيارنا الآخر فهو الاستمرار في العيش مع الطبيعة البشرية و تجاهل عيوبها كما لو كانت حتمية. فأيُّ المسارين يبدو أفضل لك؟
كُتب بواسطة د. ديباك شوبرا