هناك الكثير من القوة و الوضوح في العزلة و الصمت. و بالتأكيد فلن نكون بحاجة إلا إلى معرفة كيفية الوصول إلى هذا الصمت.. السر العميق.
و للأسف، يفشل معظم الناس في المكوث بمفردهم مع أفكارهم لأكثر من ثوانٍ معدودة.
إذ أن كل لحظة صمت سيتبعها تلك الرغبة الجامحة التي لا تقاوم في الإمساك بهواتفنا النقالة ، و محاولة الابتعاد عن الإزعاج الذي يسببه هذا الصمت.
ما تأثير معيشتنا الصاخبة على صحتنا العقلية و الجسدية؟
يعيش الإنسان المعاصر حياة شديدة الصخب. فمرة نستمع إلى التدوينات الصوتية (البودكاست) أثناء القيادة للتغطية على أصوات السيارات الأخرى.
وفي أخرى نستمع إلى الموسيقى في المكتب حتى لا تصل إلينا أصوات زملائنا. وقد نشاهد التلفاز أثناء مشاهدة مقاطع الفيديو على هواتفنا الذكية في الوقت الذي نجري فيه محادثة مع صديق.
ونتدرب داخل منشآت تعمد إلى تشغيل الموسيقى من خلال الاتصال الداخلي باستخدام سماعات الرأس.
حتى أنشطتنا التي نمارسها في أوقات الفراغ والتي تهدف إلى "تهدئة" العقل مثل قراءة كتاب أو ممارسة فن غالباً ما يتخللها بعض أشكال الضجيج.
إن الأماكن الهادئة على وشك الانقراض بمعدل يتجاوز بكثير انقراض الأنواع الحية.
و تتمثل الحقيقة في أن لدينا نهم كبير للضجيج لا ينتهي. وعلى الرغم من أن هذا قد لا يبدو أمراً مهماً إلا أن التأثيرات النفسية للتلوث الضوضائي حقيقية جداً.
وقد ربطت الدراسات بين التلوث الضوضائي وبعض الأمراض مثل زيادة ضغط الدم والقلق واضطراب النوم وضعف الأداء المعرفي والاكتئاب.
كما أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من المطارات أو الطرق المزدحمة يعانون من حالات الصداع، كما أنهم أكثر عرضة للحوادث الطفيفة.
و لا ريب أن الصوت جزء مهم وأساسي من الحياة اليومية. لكننا نحتاج أيضاً إلى إدراك أن جميع الأصوات ليست متساوية. وهناك أدلة دامغة على أن التعرض للضوضاء البيئية له آثار ضارة على صحتنا – وهو الأمر الذي يزداد سوءاً.
لذا، كيف يمكننا بشكل واقعي التحكم في التلوث الضوضائي في عالم يزداد ضجيجاً ؟ هيا بنا عزيزي القارئ نكتشف ذلك .
تكلفة الوجود الصاخب الذي نعيشه
هناك مصدران رئيسيان للتلوث الضوضائي noise pollution .
الأول هو، الضوضاء الناتجة عن أشياء occupational noise مثل الآلات و أعمال البناء و الانفجارات.
و الثاني هو، الأصوات الترفيهية recreational sounds مثل التلفاز، و الأصوات الشخصية، و الأنشطة الرياضية.
و على الرغم من أن جميع هذه الأصوات واضحة وحاضرة في الحياة اليومية، إلا أن الأصوات التي لا ندركها قد تكون صاحبة التأثير الأكبر على حياتنا.
و للعلم فالأذن البشرية تستمر في العمل أثناء نومنا، و يمكنها التقاط الأصوات التي تتم معالجتها من قبل أجزاء مختلفة من الدماغ.
و قد قام الدكتور أورفيو بوكستون Orfeu Buxton ، خبير النوم في جامعة هارفارد Harvard University ، بمراقبة نشاط الدماغ لبعض المتطوعين الأصحاء الذين شُغلت لهم مقاطع صوتية قصيرة من أصوات مختلفة أثناء نومهم.
حيث لوحظ أن موجات أدمغة المتطوعين قد ارتفع نشاطها العصبي في أشكال متعرجة شبيهة باليقظة .
و كانت معظم الأصوات التي تم اختبارها شائعة جداً مثل: رنين الهواتف، وصوت حركة المرور في المدن، والتحدث، والضوضاء التي بوسعنا سماعها في بيئة حضرية.
و حتى إذا لم تستيقظ، فإن جسمك يستمر في معالجة أصوات السيارات التي تسير خارج نافذتك أو أصوات الموسيقى القادمة من شقة في الطابق العلوي.
ويبدو أن الضجيج المستمر يُطلق استجابة الجسم الحادة للتوتر مما يرفع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب.
أما المشكلة الأخرى فتكمن في أننا أصبحنا نعتمد بشكل ميؤوس منه على التكنولوجيا.
ولا ندرك مقدار الضوضاء التي تحدث من حولنا بسبب نجاح هذه الضوضاء في التغلغل داخل أدمغتنا، و علاوة على ذلك فإن أجهزة الجيب تضيف المزيد من الضوضاء.
ونتيجة لذلك، يفشل معظم الناس في الجلوس بمفردهم مع أفكارهم لأكثر من بضع ثوان.
فأي لحظة صمت تتبعها رغبة لا تقاوم في الإمساك بهواتفنا والقضاء على الإزعاج الذي يسببه الصمت ببعض الأنشطة البسيطة مثل الاستماع للموسيقى أو مشاهدة مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب.
لتكون مبدعاً، عليك قضاء الوقت بمفردك
من المعلوم أن صحتنا ليست الشيء الوحيد الذي يجدر بنا الاهتمام به.
فالتواجد وسط الضوضاء لفترة طويلة جداً يتسبب في إعاقة إبداعنا و إلهامنا. لأنك إذا كنت محاطاً باستمرار بأصوات وضوضاء الآخرين، فسيكونون هم كل ما تفكر فيه.
يقول ديفين فولي Devin Foley :"إننا لسنا معنيين بهذا الوجود الصاخب. ففي الصمت، نغدو مجبرين على مواجهة ما ليس صحيحاً مع أنفسنا، بينما تمثل الضوضاء لنا مهرباً من هذا "
و هذا هو السبب في أن بيل جيتس يخصص "أسابيعاً للتفكير"، حيث يمكنه الانغماس فقط في العزلة والتفكير والقراءة.
وكذلك السبب وراء تراجع العديد من الشركات اليوم عن خطط طوابق المكاتب المفتوحة.
إذاً : فهناك الكثير من القوة في العزلة و الصمت. ونحن بحاجة فقط إلى معرفة كيفية الوصول إليها.
ماذا علينا أن نفعل الآن؟
لن يتم التغلب على التلوث الضوضائي. فهو شيءٌ غير مرئي يصعب قياسه بدقة، و يكاد يكون من المستحيل تشريعه - و ذلك على الرغم من أن المجتمعات حاولت ذلك على مر السنين.
و لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع التقليل منه لنعيش حياة أكثر سعادة وصحة.
فبالنسبة للمبتدئين، فهم بحاجة إلى الاعتراف بأن التلوث الضوضائي مصدر قلق صحي مشروع. لذا كن واعياً عندما يتسلل الصوت إلى حياتك وحدّد كيفية التخفيف من تأثير التلوث الضوضائي عليك.
و يمكن أن يكون الأمر في بعض الأحيان بسيطاً كإغلاق النوافذ والأبواب لتقليل كمية الضوضاء التي تدخل إليك. وأنا شخصياً أحاول أن أستغرق ثلاثين دقيقة كل أسبوع أنعزل فيها عن الضوضاء تماماً.
وهذا يشمل إغلاق هاتفي وإبعاده عن متناول اليد، والتأكد من إيقاف تشغيل جميع الأجهزة، والعثور على مكان روتيني في شقتي مخصص لممارسة الصمت لفترة محددة.
ومن الأفضل القيام بذلك في الصباح الباكر قبل أن يستيقظ معظم الناس وبذلك تستطيع جني الفوائد الكاملة.
و قد ترغب كذلك في إمضاء بعض الوقت الهادئ في أحضان الطبيعة. إذ أن جمالية وراحة الأشجار والمساحة المفتوحة الواسعة ستمنحك إحساساً بالراحة والاتزان النفسي الذي نكافح للعثور عليه في مناطق أكثر سكاناً.
و أنا أؤكد لك عزيزي القارئ أن بعض أفضل أفكاري تأتيني أثناء قيادتي للدراجة لمسافات طويلة إلى المناطق المنعزلة، وغالباً ما أعود إلى حياتي اليومية وبداخلي الكثير من الحيوية الجسدية والإبداعية.
لذا ، تذكّر أن الهدف هو أن تكون مبدعاً وتجد ما يناسبك. وستندهش بمدى تأثير الصمت على تحسين الحالة المزاجية والصحة و الإلهام والتحفيز.
أفكار أخيرة ...
إن ممارسة الصمت ليست بالأمر السهل. إذ أنك و في البداية، ستجد أن الأمر غير مريح ومحرج وغريب. كما أنه يتطلب عملاً مخصصاً واستباقياً.
ولكن في محاولة لتطهير عقلك والاستمتاع بحياة صحية، سيكون الأمر جديراً بالاهتمام.
عزيزي القارئ
لأننا نهتم، نتمنى أن تكتب لنا في التعليقات عن المواضيع التي ترغب و تهتم بها لنتمكن من تقديمها لك، لرغبتنا في أن يعبِّر موقعنا عن اهتمامات القارىء العربي.
كما ونرجوا منك مشاركة المقال في حال أعجبك المحتوى.
ننصحك بقراءة المقالات التالية :
مقال مفيد جدا.
المشكلة اننا حتى و إن اردنا ان نصمت فهناك دائما ما يجعلنا نصرخ لا فقط نتكلم.
تحياتي
شكراً لك استاذة لينا،
الصمت عالم واسع، رحب و ملئٌ بكل ما يزعج العقل.
ما يمنعنا من الولوج إلى عالم الصمت (و ربما الالتجاء إليه) هو العقل، لأنه يشغلنا دائماً بالماضي و تعلقاته.
التدرب على العيش في اللحظة هو خير وسيلة لطرق بوابة عالم الصمت.
اتمنى أن تنصتي جيداً لصوتك الداخلي، دمت بمحبة