إنه يجدر بالعلم الآن أن يأخذ " اللاشيء " “nothing” على محمل الجدية و يوليه قدر أكبر من الأهمية، و لابد من أن يوصف "اللاشيء" على نحوٍ أكثر دقة بحالة ما قبل الخلق.
كُتب بواسطة: د. ديباك شوبرا
لا شيء في أساطير الخلق التي عُرفت في الحضارات القديمة يتوافق مع نموذجنا الحالي للخلق من حيث الغرابة و اللااحتمالية.
إننا نبتسمُ بتسامحٍ عند سماعنا لتلك الأساطير البعيدة، على الرغم من أن الإنسان العادي على الأرجح لم يتعمق كثيراً في سفر التكوين ، وذلك في حال كان متديناً، ولم ينظر للانفجار العظيم -البيج بانج Big Bang إلا بغموضٍ باعتبارهِ نوعاً من الانفجار الديناميتي الكوني.
وسيراً على نهج أسلافنا، فقد أدرجنا معرفتنا عن الخلق في قصة.
بيد أن الاختلاف يكمن في أن قصتنا، مدعومةً بالفيزياء الحديثة، تُعدّ أكثر منطقيةً، وتقوم على أسس علمية، و بالتالي على المال .
الكون ما هو إلا نتاجٌ لما شيّده عقل الإنسان
تكمن الأزمة في أن قصة الخلق الحالية لا تتوافق مع الواقع من حولنا، إذ أنها جنحت منذ زمنٍ قديم إلى أبعد مما يمكن تخيله، أو إثباته، أو حتى الوصول إليه .
و في كتابي الجديد "الإنسان الخارق" Metahuman ، أتحدث مطولاً عن هذه الجزئية ، حيث أقوم بعرض فكرةٍ متطرفة بعض الشيء: وهي أنَّ الكون ما هو إلا نتاجٌ لما شيّده عقل الإنسان، ما هو إلا خلفيةٌ للواقع الافتراضي الذي وُجدنا جميعاً خاضعين له طوعاً بأنفسنا.
و يكمن الهدف وراء كتابي في تنبيه القارئ للواقع "الحقيقي"، بيد أن هذا يستحيل حدوثه إذا سلّمتَ -عزيزي القارئ- بأن الكون الفيزيائي هو أساس كل الموجودات.
و لكن ، يبدو جلياً أن الأمر ليس كذلك. فالكون الفيزيائي يقوم على أربعة أشياء، ألا وهي : الزمن، والفضاء، والمادة، والطاقة.
حيث تمدنا حواسنا الخمسة بمعلوماتٍ تقوم في الأساس على هذه المفاهيم الأربعة، وبهذا، إذا صدقنا حواسنا بشكلٍ طبيعي، يتبدد الغموض.
ويُشار إلى الإيمان بالحواس الخمسة بالواقعية الساذجة naïve realism ، والتي ثبت بأنها شيء غير قابل للتعليل كلياً. ويعد المثال الكلاسيكي الذي يشرح كيفية خضوعنا لخداع الحواس الخمسة هو تجربة شروق الشمس وغروبها.
إذ تتجلى الشمس للجميع كما لو كانت تتحرك عبر السماء، بمثل ما تبدو السماء للجميع زرقاء اللون، وكذلك تبدو الأرض حولنا مسطحةً، والقمر يتغير شكله باستمرار، إلى آخره من الأفكار الخاطئة.
ولاستبدال الواقعية الساذجة، تعمقت الفيزياء الحديثة في طبيعة الزمن، والفضاء، والمادة، والطاقة، لينتهي بها المطاف لإدراك أن ليس لأحدها أساسٌ مضمون تقوم عليه.
وسواءٌ عدت بالزمن إلى وقت الانفجار العظيم أو سبحت عمودياً، إذا أمكننا بالأحرى أن نقول ذلك، من المواد الضخمة إلى الجزيئات المتناهية الصغر، وسواءٌ سعيت لحساب أين تقع حافة الكون أو كيف تتحول موجات الطاقة غير المرئية إلى "مواد" صلبة، فستجد غموضاً جوهرياً واحداً وراء كل شيء.
شيء من لا شيء
يُعرف هذا الغموض عادةً بمصطلح "شيءٌ من لا شيء" “something from nothing” ، والذي يعبر عن الشيء ذاته الذي توصل إليه أسلافنا ولكن مشروحاً بمصطلحاتٍ علمية متطورة و معقدة .
و سعياً وراء أهدافهما الخاصة، يتعين على علمي الفيزياء والكونيات وصف كيف تعمل الطبيعة تفصيلياً، غير أن مصطلح "شيء من لا شيء " يأخذهما إلى طريقٍ مسدود.
و هكذا ، و ببساطة لا يمكن تصديق أن الفراغ الكمي، وهو فراغ خالٍ على الإطلاق من جميع الأبعاد، ومن الزمن، ومن "المادة"، أقول أنه لا يمكن تصديق أن هذا الفراغ بإمكانه خلق الكون بأي حالٍ من الأحوال.
و قد واجه العلماء هذا المستحيل من خلال لجوئهم إلى النظريات الرياضية الحديثة مثل الخيوط الفائقة والأكوان المتعددة، وفي الوقت ذاته فإنهم يعلمون علم اليقين أن لا شيء يضمن أن هذه النظريات تصف أي شيءٍ حقيقي. وثانياً ، فإن الرياضيات ما هي إلا أرقام، والأرقام لا يمكنها خلق الفضاء، والزمن، والمادة، والطاقة.
غير أنه انطلاقاً من الحيرة الحالية التي تكتنف قصة الخلق، والتي أستشعرها عوام الناس، انبثق شيءٌ جيد.
فبالنظر إلى حقيقة أن العلم أمضى قروناً دارساً ومفسراً لما هو "الشيء" “something” ، يجدر بالعلم الآن أن يأخذ "اللاشيء" “nothing” على محمل الجدية.
و يوصف "اللاشيء" على نحوٍ أكثر دقة بحالة ما قبل الخلق. يتضمن الخلق في الواقع متغيّرين تابعين ل" الشيء"، ويُعرفان بالعالم الفيزيائي الموضوعي، والعالم الذاتي الداخلي.
حيث لم يقم أحدٌ باختبار الجزء الأول من حالة ما قبل الخلق، لأنه لا توجد معطيات موضوعية لدينا، وفي الواقع ليس بالإمكان الحصول على معطيات موضوعية أصلاً خارج نطاق الفضاء، والزمن، والمادة، والطاقة. وهذا هو السبب الرئيسي وراء كون نظرية "اللاشيء" غير خاضعة للتخيل أو التصديق.
بيد أن الجزء الثاني من حالة ما قبل الخلق يخضع للتجربة طوال الوقت. و تندرج "الأشياء" “stuff” الخاصة بوجودنا الذاتي تحت كلٍ من الشعور، والصور، والأحاسيس، والأفكار.
حيث تعبر هذه الأشياء الأربعة عن النشاط الذهني، ويبدو جلياً أنه إذا استبعدنا هذه الأشياء، لا يكون "اللاشيء" الذي نحن بصدد شرحه فراغاً بعد الآن.
وحتى بدون أن ينخرط العقل في أية أنشطة، فإنه يظل محتفظاً بطبيعته، والتي نعرفها باسم الوعي. فعندما تكون واعياً، تكون موجوداً بحق، وهو الأمر الذي يبدو بديهياً.
غير أن الوجود، كما اختبرته الكائنات البشرية، لا يمكن فصله عن كلٍ من الذكاء، والإدراك، والإبداع، وحب الاستطلاع، والمعرفة، والفهم، والتطور، والوعي الذاتي.
ويشكل كل ما سبق حالة ما قبل الخلق الخاصة بنا من الجانب الذاتي للموازنة.
جانبي الخلق، الموضوعي والذاتي، يأتيان من المنشأ ذاته
وبخلاف الجانب الفيزيائي لتلك الموازنة ، و الذي يتحتم فيه تفسير الفضاء، والزمن، والمادة، والطاقة بدون الاعتماد على الفضاء،
والزمن، والمادة، والطاقة – وهي المهمة التي لم يقترب أحدٌ من تحقيقها حتى الآن- فإننا نختبر أفكارنا بالاستعانة بكل خواص حالة ما قبل الخلق.
إذ لا يولد أحدٌ بمعزلٍ عن المعرفة، والإدراك، والوعي، وتأويل التجارب الشخصية، وامتلاك الوعي الذاتي.
وفي معرض الحديث عن الإبداع، يتراءى لنا أن كلاً من مايكل أنجلو Michelangelo و بيكاسو Picasso ، على سبيل المثال، قد قاما بتقديم أعمال فنية رائعة، غير أن أحداً منهما لم يجنح إلى الإبداع.
وكمثل جميع الصفات الأخرى المميزة لعملية الوعي، يعد الإبداع ببساطةٍ جزءاً من هذا النظام.
و منذ لحظة قدومك إلى الدنيا، فإن الإبداع يعرف طريقه إليك ، و ذلك بدءاً من اللحظة التي تعمل فيها البيضة المخصبة على التشكل في هيئة جنينٍ داخل الرحم.
و هكذا ، و بالعودة لكتابي (الإنسان الخارق) ، نجد أنه يتحدث و بالتفصيل عن المكان الذي انبثق منه الكون الفيزيائي، ويناقش فكرة أن كلا جانبي الخلق، الموضوعي والذاتي، يأتيان من المنشأ ذاته.
فالوعي هو الخالق والخلق، العالم والمعلوم، الداخل والخارج لجميع الأشياء، بغض النظر عن موقع زاويتك التي تراقب من خلالها إلى الواقع.
و لقد تطلب الأمر مني كتاباً كاملاً لتعليل هذا الادعاء، غير أن ميزة اعتبار الوعي هو الواقع "الحقيقي" تتجلى في أنها لا تتطلب جدلاً طويلاً.
إنني أجد أنه من الرائع أن مصطلح "شيءٌ من لا شيء" بات له معنى الآن، وهو معنى يتوافق مع الواقع كما يشهده الإنسان العادي.
وبمجرد أن تدرك أنك مرتبطٌ منذ البداية بالذكاء، والإبداع، والمعرفة، وباقي هذه الأشياء؛ تتبدى لك احتمالية الحصول على المزيد من كلٍ منها.
و لا شك أن تلك الأشياء هي أثمن الأشياء التي يأمل أي شخصٍ في الحصول عليها، ويمكنني أن أذهب أبعد من ذلك لأقول أن الحب، والشغف، والهناء، وجميع القيم الروحية متضمنة في النظام ذاته.
و أخيراً..
لقد اتضح أن "اللاشيء" في الواقع نطاقٌ من الاحتمالات اللانهائية، وهذا النطاق هو الوعي، والذي نساهم جميعنا فيه.
فنحن لسنا بحاجةٍ إلى الحصول على درجةٍ متقدمة في فيزياء الكم لنشهد حالة ما قبل الخلق. فها هو اللاشيء يتحول إلى شيء هنا والآن، و ذلك من خلال كل فكرة، وكلمة، وفعل نقوم به.
وإدراك ذلك يعني إدراك الواقع بأكمله. والإدراك لا يتعدى كونه مجرد نقطة بداية، غير أن إدراكك للهدف بأكمله انطلاقاً من نقطة بداية خاطئة، سيؤدي بك إلى الضياع بسهولة.
لقد كتبت كتابي لإقناع القراء أن نقطة البداية الصائبة تحدق في وجوهنا طوال الوقت، ولطالما كانت كذلك.
عزيزي القارئ
لأننا نهتم، نتمنى أن تكتب لنا في التعليقات عن المواضيع التي ترغب و تهتم بها لنتمكن من تقديمها لك، لرغبتنا في أن يعبِّر موقعنا عن اهتمامات القارىء العربي.
كما ونرجوا منك مشاركة المقال في حال أعجبك المحتوى.
ننصحك بقراءة المقالات التالية :
ديباك شوبرا - 5 عادات جوهرية حاسمة لـ النوم المريح
الخالق والمخلوق واحد
هذا ما لا يقبله عقل بشري
جعلت الوجود والعدم واحد!!
جعلت و اثبات ان الخالق نفسه المخلوق بطريق اجتماع النقيضين،
واستخدمة مغالطة بالاثبات
وهي ان ربطت وجودك كوجود الافعال التي تاتي من الانسان نتيجة التاثر بالامور الخارجية.
فهذا مستحيل انه كيف يوجد(يخلق ) من لم يوجد !
اذا كلامك
لا يعقبله عاقل!!
الخالق والمخلوق واحد هده الجملة حيرتني كثيرا
بلاضافة الي دلك لم تشرح (اللاشيء ) بطريقة الصحية في نظري المتواضع
"الوعي هو الخالق و المخلوق، العالم و المعلوم، الداخل و الخارج لجميع الأشياء، بغض النظر عن موقع زاويتك التي تراقب من خلالها الواقع"
انتهى الاقتباس، من كلام د. ديبك شوبرا
العلة في منطلقات العقل .. الوعي الذاتي خارج حدود العقل و متكامل مع الوعي الكلي