إن حركة الإمكانات البشرية موجودة منذ قرون عدّة، و هي من نواحٍ كثيرة اسمٌ بديل لتطوير الذات. إذ تتواجد الرغبة لتحسين الذات بشكلٍ طبيعي داخل كل فرد، ما لم تثبّطها قوى خارجية مثل الفقر.
و غير أن حركة الإمكانات البشرية أبعد طموحاً بكثير. و هي تطمح إلى اكتشاف مجال واسع من الإمكانات البشرية غير المكتشفة.
أتحدث في كتابي الجديد الذي يحمل عنوان "الإنسان الخارق: أطلق العنان لقدراتك اللانهائية" عن اللانهائية التي تتمتع بها الإمكانات البشرية. في البداية سيبدو الأمر لك مبالغةً شديدة.
فكل فرد يواجه قيوداً شخصية تدفعه بعيداً عن الحدود القصوى. و لكن اسمحوا لي أن أثير هذه القضية أولاً من خلال قلب فرضية تطوير الذات رأساً على عقب.
قضية الإمكانات البشرية
تبدأ الطريقة المثالية التي يتم بها تناول موضوع الإمكانات البشرية بالحدود الفردية، ثم تسعى لتقليل هذه القيود. و هناك مدرسة فكرية تعتقد في إمكانية تحقيق زيادة في مقدار السعادة بنسبة 10%، الأمر الذي يمكن اعتباره خطوة رئيسية.
و لكن تكمن الفكرة في الصعوبة الشديدة لفهم السعادة إلى الحد الذي يجعل أي تطور يستلزم أن يكون صغيراً.
و في الجهة المقابلة في موضوعٍ آخر مثل معدل الذكاء، يكون الهدف أصغر كثيراً، لأن الخبراء يتفقون على ثبات معدل الذكاء للفرد الواحد و الذي يتغير فقط بنسبة ضئيلة للغاية منذ الطفولة.
و سنأخذ مثالاً ثالثاً و هو الإبداع، و الذي يبدو أنه يمهد الطريق لتطويرٍ هائل، غير أنه قد تبين أن السعي وراء اكتشاف ما الذي يجعل المبدعين مبدعين، عملٌ محبطٌ و محير.
فأنا أؤمن أن المعضلة التي تشترك فيها جميع هذه الأمثلة، ليست في الحدود البشرية و إنما في نقطة البداية الخاطئة.
فأنت لا يسعك الوصول إلى إمكانات غير محدودة من خلال البدء بإمكانيات محدودة.
فكلنا نبدأ من اللانهائية في مواقف معينة، على الرغم من أننا قد لا ندرك ذلك. و عقلك، على سبيل المثال، قادرٌ على توليد الأفكار اللانهائية.
بيد أنه لن يكون لديك في الحقيقة عدد لانهائي من الأفكار أثناء حياتك - فالعدد الفعلي غير معروف، لكن يفترض المرء أنه كبيرٌ للغاية – و يُعتقد أن تلك القدرة على التفكير اللانهائي هي المستودع الذي تعتمد عليه.
فأنت حرٌ تماماً للتفكير في أي شيء.
و ينطبق الشيء نفسه على اللغة. إذ تكفي المفردات الكبيرة التي تتراوح من 10000 إلى 20000 كلمة لإنشاء جمل أكثر من عدد الذرات في الكون.
و السعة اللانهائية للغة توازي سعة الفكر، لأن الأفكار يُعبر عنها بالكلمات. و هناك نوع آخر من اللانهائية يتعلق بالإبداع. فالعدد المحتمل للوحات و الصور والمقاطع الموسيقية التي يمكن أن تتواجد بوسعه أن يكون غير محدود.
لماذا تكون الصورة محدودة عن الذات و الإمكانات البشرية؟
وطالما أننا متفقون مع فكرة اللانهائية في العديد من المجالات؛ فلماذا نتبنى صورةً محدودةً للغاية عن الذات؟ المذنبان المسؤولان عن ذلك؛ هما الأنا و القصص التي تبنيها الأنا حول نفسها.
ما لا يدركه الناس هو أن الأنا الخاصة بهم تتبع جدولاً منظماً تشكّله بعض الأشياء.
فتنقسم هذه الأشياء ما بين البحث عن المتعة و تجنب الألم، واتباع تيارٍ مستمر من الرغبات التي تتطلب التنفيذ، إلى إيجاد الأمان و الحماية، و الدفاع عن ذاتها ضد التهديدات.
و قد تعلمنا جميعاً مذ كنا أطفالاً مهارة تحويل هذه الأشياء إلى حقيقة واقعة. فالطفل دوماً ما يكون ممتلئاً بالشك و الفضول؛ و يرغب في اختبار كل الأشياء في الحياة.
و بينما نسلك طريقنا لبناء أهدافنا، و الحلم بالقدرة على التنبؤ، و إرضاء آبائنا؛ أثناء كل ذلك نتجه بأقدامٍ مرتعشة نحو النضوج في طريق يختلف عن ما يسلكه الجميع، إلا أنه، هو نفس الطريق في الوقت ذاته.
و بالتالي تُراكم الأنا الخبرات التي لا شك تخدم جدولها من أجل أن تكون مقبولة. فالألم و الصعوبة و الضعف و الهزيمة و الرفض من قبل الآخرين؛ كلها أشياء تشكل تهديداً رئيسياً للجدول الذي تتبناه الأنا الخاصة بنا.
ولمّا كانت الحياة غير متوقعة على الدوام؛ فيمكنها مواجهتنا بأيٍّ من تلك الخبرات و المواقف غير المرغوبة و في أي وقت.
و من أجل أن تحمي الأنا ذاتها ضد هذه الاحتمالات؛ فإنها تتبنى قصةً حول الغائية التي تدور حولها حياة الفرد، و في هذه القصة تكون الأشياء غير المتوقعة بعيدة كل البعد عنها.
و يفكر معظم الناس و يقولون و يفعلون ما قالوه و فكّروا فيه و فعلوه بالأمس. فباتباعنا هذا النهج نشعر بقدرٍ من الأمان، غير أننا في مقابل ذلك نفقد قدراتنا اللانهائية.
و بالنتيجة، فلا شيء يحدّ من مستودع الأفكار و الكلمات و الإبداع اللانهائي باستثناء الحدود التي فرضناها على أنفسنا.
إذا كان جدول الأنا قد نجح بالفعل، فقد تصبح الحياة عندئذٍ مُرضيةً بما يكفي. و مع ذلك، لا يوجد مفر من حقيقة أن المستقبل غير معروف، و مليءٌ بالاحتمالات المخيفة التي لا تستطيع الأنا مجابهتها.
السر داخلك
كلنا نعرف هذا في أعماقنا، و عوضاً عن إسقاط جدول الأنا؛ نزداد شعوراً بعدم الأمان و نتعلق به بشكل أكثر صرامة. إن الناس في حاجةٍ ماسة إلى المال و الممتلكات و المكانة و السلطة و العادات القديمة، و يتشبثون بهذا كله بضراوةٍ تتصلُ بطريقةٍ مباشرة مع شعورهم العميق بعدم الأمان. و الحقيقة هي أنه لا يوجد شيء كافٍ للدفاع عنك ضد أي شيء قد تجلبه الحياة.
فيواجه الكشف عن الإمكانات البشرية معركةً شاقة بسبب الصراع الداخلي الذي لا ينجح إلا القليل منّا فقط في التغلب عليه.
إننا نرغب في أن نتوسع و نتحسن و نطّور من أنفسنا، و في الوقت ذاته نريد أن نتشبث بشدة بقصتنا التي تقوم على القلق و الإحساس بعدم الأمان.
وفي كتابي (الإنسان الخارق) ستجدونني أناقش فكرة أن البدء من الإمكانات اللانهائية هو الطريقة الوحيدة للهروب من قبضة جدول الأنا.
و لا يستلزم هذا شجاعةً استثنائية في وجه المجهول. و لكن ينطوي فقط على تجاوز مستوى الوعي الحالي.
و للعلم فلقد لاحظ (أينشتاين)، كما لاحظ العديد من الناس، أن المشاكل لا يتم حلها انطلاقاً من نفس مستوى المشكلة. فالأنا و جدولها مشكلة دائمة، لذا فإن الحل هو تجاوز مستوى المعاناة إلى المنطقة التي تهيمن عليها الأنا.
ما تسميه حقيقة هو حلم العقل
إن ميتا "Meta" هي الكلمة اليونانية لـ "الما وراء"، و تشير إلى "الإنسان الخارق - metahuman"، و هو الإنسان الذي يتحلى بحالةٍ يقظة تماماً من الوعي.
و بالتالي فعملية التحول إلى الإنسان الخارق أشبه ما تكون بالاستيقاظ أو الصحوة. إنك تبدأ في تدارس قصتك الشخصية و تحرير نفسك منها.
و يكمن الشيء الجوهري في إدراكك أنك قد قمت بتعديل الواقع و مراقبته و تقليله و تشويهه. و ما تسميه حقيقةً لا يعدو كونه حلماً صنعه عقلك أو فتنةً أو حتى وهماً.
إنَّ الحياة لا يسعها أن تكون كاملةً ما لم تكن أنت كاملاً، و هي كلمةٌ يجدها معظم الناس مريحةً أكثر من اللانهائي. غير أنهم يصلون في النهاية إلى الشيء نفسه.
و يوجد عند منبع الإدراك الإنساني وعيٌ تام، و هي الحالة من الوعي التي توجد ببساطة لأنها موجودة.
و مع ذلك، فالوعي التام ليس مسطحاً أو فارغاً؛ فهو مصدر الأشياء التي نقدرها إلى أبعد الحدود في الحياة: و هو الحب و الرحمة و الذكاء و الإبداع و التطور الشخصي. و كلما اقتربت من المصدر، زاد نصيبك من هذه الأشياء القيّمة.
و لا يمكن أن يتحقق هذا الاحتمال حتى تختبره شخصياً. فعوضاً عن اتباع جدول الأنا، يتعين عليك أن تتبع جدول الصحوة و اليقظة. و قد يبدو هذا الانقلاب عنيفاً، بيد أنه في الواقع يأتي بشكل طبيعي بمجرد أن تبدأ.
إذ يستطيع العقل أن يتراجع عن أي شيءٍ قد قام بصنعه. فالإنسان الخارق جزءٌ لا يتجزأ من الإنسان.
و علينا فقط أن ننتبه إلى الفرص التي تضعها الحياة في طريقنا كل يوم، و أن نستفيد منها. و لطالما كانت اللانهائية نقطة الانطلاق الصحيحة نحو الإنسان الحقيقي، و هي تلوّح إلينا مرةً أخرى، كما كانت تفعل على الدوام.
كُتب بواسطة د. ديباك شوبرا