لا شك أنه من الصعوبة بمكان تخيل العالم بدون أرقام. فمن الأمثلة البسيطة عن الرياضيات : مساحة منزلك، وقيمة الإيجار أو الرهن العقاري الخاص به، ووزنك الذي تراه على الميزان، بينما يمثل كلٌ من نظام تحديد المواقع (الجي بي إس) الذي يرشدك في أسفارك، وهاتفك الذكي، وإرسال مسبار فضائي إلى كوكب زحل أمثلةً على الرياضيات المعقدة.
في حين أن بناء كلاً من الأهرامات ومعبد بارثينون كان قد تطلب نوعاً ما من الرياضيات البدائية، التي تتجاوز قليلاً المعادلات الأساسية والقدرة على العدّ.
الرياضيات تحجب عنك الطريق في بعض الأحيان
لاشك أنه من السخف الادعاء بأن الأرقام تمثل مشكلةً ؛ إذ أن أهميتها الكبيرة تتجلى لنا في كل نواحي الحياة المختلفة.
بيد أنك إذا كنت تطمح إلى النزوع لما هو أبعد من الحالة الحاضرة للوعي، إذا تمنيت أن تكون أكثر سعادةً، أو أن تجد الحب، أو أن تعرف نفسك، فعندئذ لن تكون الرياضيات بلا فائدة فقط، بل إنها ستحجب الطريق عنك أيضاً.
فهي تدفعك بداخل شركٍ و مصيدة من الوهم ، هذا بالإضافة إلى أنها تُعمّق هذا الوهم بطرقٍ متطرفة. ولك أن تصدق أو لا ، أن أي شيءٍ تستطيع إحصاءه، أو وزنه، أو حسابه، او قياسه، يمثل جزءاً من وهمٍ كلي كبير – ولتعي هذه الحقيقة، سأضعك على بداية طريق الواقع "الحقيقي" وموقعك بداخله.
إنني عندما أتحدث عن الوهم، فأنا أعني الكلمة بمعناها الأكثر شيوعاً، بذات الطريقة التي يكون فيها حلمٌ ما وهماً. و أنا أدعوك هنا أن تقوم معي بتخيل أنك كنت تحلم ذات ليلة، وبداخل حلمك تستطيع استخدام الأرقام، وقياس الأشياء، بل وحتى دراسة العلم. ومن الواضح أن قدرتك على الإتيان بتلك الأشياء سيطمئنك بشأن واقعية الحلم الذي تعيشه. ولكن بمجرد استيقاظك من النوم، ستصبح في الحال جميع الإحصاءات، والقياسات، والعلوم غير ذات صلة.
هل تعتقد أن هذا المثال لا يخضع للتطبيق بعد استيقاظك؟ إنه بالتأكيد يخضع لذلك .
ولكي تكشف زيف الأرقام والوهم الذي تخلّفه وراءها، إليك بعض الحقائق المتعلقة بطبيعة إحدى خواص طبيعتنا الجوهرية، وهو الضوء.
- الفوتونات ، وهي الجزيئات الأساسية المكونة للضوء، و هي ذات طبيعة غير مرئية كما أنها ليست مشعة أيضاً.
- للضوء طبيعتان متعارضتان، إذ أنه يسلك سلوك الجسيم وسلوك الموجة . ويمكن قياس كلتا الحالتين، بيد أن كيفية تحوّل إحداهما للأخرى يظل لغزاً تاماً. و نحن فقط بإمكاننا ملاحظة حدوث الحالة.
- ليس بوسعنا تفسير ظاهرة الألوان. فالسبب وراء كون اللون الأحمر أحمر ليس له علاقة بتردده أو طوله الموجي، و هذا مشابه تماماً لتفسيرنا لسبب المذاق الحلو للسكر من خلال عدّ ذرات الكربون في الجزيء الخاص به.
- لا يملك أي أحد أدنى فكرة عن السبب وراء وجود الضوء بالأساس.
- لا يقدم لنا فحص الدماغ البشرية تفسيراً بشأن الصور الافتراضية التي نراها في عقولنا.
- لا تحتوي القشرة البصرية للدماغ صوراً بداخلها؛ و هي في الواقع معتمة تماماً ومجردة من الضوء.
الوعي هو الذي يكشف فشل الرياضيات
و استناداً لما سبق فإنه إذا لم تصدمك هذه الحقائق، فأنا أتمنى أن تفاجئك قراءتك لها على أقل تقدير. والآن، ما الذي يجمع بين كل هذه الحقائق سوياً في شيءٍ واحد؟ إنه الشيء الذي كشف الفشل المطلق والكلي للرياضيات و هو : الوعي .
إذ أن وعيك هو ما يعطي للضوء إشعاعه ولونه، وهو الذي يخلق الصور داخل أدمغتنا، وهو كذلك الذي يختبر العالم كمسرحٍ من الأحداث الواقعة في حيز الزمان والمكان.
أما بالنسبة للمتشككين الذين يظنون أنني أبالغ في إيضاح فشل الأرقام بمفردها في تفسير الواقع، فأرجو منهم الرجوع للورقة البحثية القديمة عن العلاقة المذهلة بين الرياضيات والواقع، والتي قدمها الفيزيائي المرموق بجامعة برنستون Princeton يوجين ويغنر Eugene Wigner في عام 1960، وأسماها "الفعالية اللامنطقية للرياضيات في العلوم الطبيعية" The Unreasonable Effectiveness of Mathematics in the Natural Sciences.. ولا شك أن حجة (ويغنر) معقدة، بيد أنه يصل بنا لاستنتاج أنه بدون تفسير الوعي، تكون علاقة الرياضيات بالواقع مكبلةً بالغموض تماماً.
ليس بوسع الرياضيات تفسير أي شيء يخص الوعي
دعونا نعترف بأن الرياضيات ليس بوسعها تفسير أي شيءٍ بشأن الوعي. والآن.. ماذا؟ لا شك أن جيمعنا يعتمد على عالم التكنولوجيا القائم اليوم، بل لقد اعتمد مسار الحضارة ذاته على الرياضيات منذ اللحظة التي أقيمت فيها القياسات المعمارية الأولى منذ آلاف السنين باستخدام عُقد موزعة بالتساوي فوق حبل.
فإذا كان كل هذا وهماً، فمرحباً بالوهم. حيث ستكون هذه استجابة السواد الأعظم من الناس.
أما بالنسبة للعلماء، الذين ينفرون بشدة من أية مضارباتٍ غيبية، فهنالك إهانة مشهورة في العلم تقول: "اخرس وقم بالحسابات."
و ليس من السهل تجاوز نقطة "والآن.. ماذا؟" إذا كنت ترفض التسليم بفكرة أن العالم الفيزيائي اليومي ما هو إلا مجرد وهم. غير أن فيزياء الكم Quantum Physics قد قوّضت وجود مواد مادية صلبة منذ زمنٍ طويل.
وإذا خضتَ عميقاً داخل بنية الطبيعة، ستجد أن المستوى الأكثر جوهريةً ، أي المستوي الكمي، هو حيث "يأتي شيءٌ من لا شيء.
" تشكل الموجات المجردة في المستوى الكمي، والتي تنشأ من حالة الفراغ الكمية ، و هو الأساس الذي يقوم عليه الكون. ويعد هذا مفتاحاً هائلاً للفكاك من الوهم.
كما أن هناك حجةٌ مقنعة تقول بأن هذه الموجات ما هي إلا نواتج للوعي؛ و بمعنى آخر، يعتقد الكون بوجود ذاته. فمنذ عقودٍ مضت أوضح الفيزيائي البريطاني البارز السير جيمس جينز Sir James Jeans أن الكون كان في طريقه لأن يتجسد كفكرةٍ هائلة أكثر من آلةٍ هائلة.
ومن المثير أنه قد رُصد سلوكٌ شبيه بالسلوك العقلي الإنساني لدى الجزيئات الأولية. وعلاوةً على ذلك، إذا لم يكن الكون نتاجاً لنوعٍ من الوعي الكوني – بل بالأحرى ، إذا لم يكن الوجود والوعي يمثلان الشيء ذاته – فسيكون العلم عاجزاً تماماً عن تبيان كيفية انبثاق الوعي. و هكذا فليست هنالك نقطةٌ ما تعلمت عندها الذرات كيفية التفكير.
وإننا نخلص من كل ذلك إلى أن التفسيرات الفيزيائية للعقل تعد مثالاً مطلقاً على الخطأ الشهير للتفاح والبرتقال (وهي مغالطة شهيرة تستخدم للدلالة على خطأ المقارنة بين شيئين لا يجوز المقارنة بينهما).
الشيء من الـلا شيء
لابد أن أذكر هنا أنه حينما خلقت الطبيعة "الشيء من اللاشيء" something out of nothing انبثق مساران مختلفان وانفصلا عن بعضهما البعض. حيث نطلق على أحد المسارين اسم "الموضوعي" objective – عالمنا "الخارجي" out there المليءٌ بالموضوعات والأحداث- بينما نطلق على المسار الآخر اسم "الذاتي" subjective – وهو يعبر عن عالمنا "الداخلي" in here بما يحتويه من الشعور، والصور، والإحساس، والأفكار.
ونحن جيدون للغاية في الموازنة بين كلا العالمين. فبوسع الفيزيائي قياس بوزونات هيغز Higgs bosons والوقوع في الحب كذلك ( و البوزون جسيم دون الذري ، مثل الفوتون ، الذي له دوران صفري أو لا يتجزأ).
غير أن تعريف الواقع في كلا المسارين يندرج تحت مظلة الوهم. فعلى الجانب الموضوعي يوجد "حساء كمي" quantum soup فوضوي لا يتوقف عن الغليان، وهو منفصلٌ تماماً عن تجاربنا اليومية.
بينما نرى على الجانب الآخر "حساءً إداراكياً" qualia soup ، يمثل فوضى تجاربنا الشخصية التي تعتري عقولنا (بإمكاننا أيضاً أن نطلق عليها "حساء المكونات الداخلية و الشخصية لتصورات الإحساس، الناشئة عن تحفيز الحواس بالظواهر،" وهو المرادف التقني لخواص الحواس الخمسة، وبمعنى آخر، هي كل شيءٍ نراه، أو نسمعه، أو نلمسه، أو نتذوقه، أو نستنشقه).
إلا أن كلا الجانبين، طالما أنهما منفصلان عن بعضهما، يدحضان الواقع، وهو ما يبرر لماذا لا يكون من السخف القول بأن الأرقام تدفعنا عميقاً إلى الوهم.
إننا نخدع ذواتنا بافتراضنا أن العالم "الخارجي" ليس هو والحلم سواء. بينما تمثل تجاربنا الداخلية في الوقت ذاته مثالاً "لوحدة الأنا" solipsistic بدون وجود العالم الخارجي.
وهكذا فإنه وبقليلٍ من المنطق يتجلى الواقع لنا حينما يتآلف الموضوعي مع الذاتي. حيث يمثل الواقع الكمال التام، ولن يتعين علينا اختباره حتى نصبح كاملين.
كما أنه ليس بوسع شيءٍ أن يحل محل الكمال، و ستتجلى هذه الحقيقة لمليارات البشر يوماً ما.
بقلم الدكتور ديباك شوبرا Deepak Chopra